المجاهد الأسطورة جرعاوي امحمد
بقلم: صلاح الدين تيمقلين
رجل متقد نبيه، نافذ البصيرة سريع البديهة، من أوائل الرجال انضماما لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية في جبال الأوراس منطقة كيمل بالضبط، ومن الرعيل الأول للثورة التحريرية، كان من ضمن المجاهدين الأوائل في حرق بخور الثورة التحريرية ونشر شميم شذاها الزكي في جبال الأوراس وربوع الوطن. وَبَثِّ الروح الوطنية في قلوب الشباب الذين عضهم الجوع والجهل، والهاب حماسهم الروحي، ودفعهم لمواجهة العدو وكسر شوكته. من رفقاء القادة العظام للثورة التحريرية: مصطفى بن بولعيد، وعاجل عجول، وعباس لغرور، وزيغود يوسف وسيدي حني. حارب في الولاية الأولى والولاية الثانية وفي الحدود التونسية مكلفا بالرقابة والاتصال وفي القاعدة الشرقية. وقد نجا من محاولتي اغتيال، الأولى عندما تم القبض عليه من قبل الإدارة الاستعمارية، والثانية عندما اتهم بمساندة مجموعة العموري ونواورة في الإطاحة بالحكومة المؤقتة.
جرعاوي امحمد بن امحمد، وابن السيدة حفصية تميمي، من مواليد دوار كيمل حوز آريس عام 1915، فرضت عليه الخدمة العسكرية الاجبارية كبقية شباب المنطقة، وذلك مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، لذلك ظل مجندا طيلة خمس سنوات، وقد استفاد من خبرات كثيرة بفضل التجنيد، والتقى بالقائد مصطفى بن بولعيد، حيث توطدت أواصر العلاقات بينهما. بعد تسريحه من التجنيد قفل عائدا الى منبته، وظلت علاقته بابن بولعيد قائمة، حيث عرض عليه هذا الأخير عام 1947 الانضمام للنشاط الوطني الذي تقوده حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وكان ابن بولعيد حينها قائدا للمنظمة السرية في الأوراس، فقبل دون تردد الانضمام، وعين مسؤولا على المناطق التالية: (كيمل، الولجة، خيران، عالي الناس، لمصارة، قلوع التراب)، بهدف التوعية وتجنيد الشباب وتكوين أفواج من الرجال تؤمن بضرورة تغيير الوضع المفروض على الشعب عن طريق حرب العصابات.
بعد اكتشاف المنظمة السرية من قبل الإدارة الاستعمارية، لم يَسْلَمْ إلا فرع الأوراس فقط، وقد تم القبض على بعضهم، والبعض الآخر لجأ الى جبال الأوراس، حيث استقبلوا استقبال الأبطال، وحددت لهم أربع مناطق معينة للاستقرار فيها الى حين، منها منطقة كيمل حيث تولى رعايتهم جرعاوي امحمد.
وقبل ثلاثة أيام من اندلاع الثورة التحريرية، كلف المجاهد جرعاوي امحمد بإحضار مجموعة من المجاهدين الى قرية الحجاج، حيث تم تقديمهم لمصطفى بن بولعيد، الذي أمره بضرورة العودة الى المناطق التي يشرف عليها، لتجنيد المزيد من الرجال للثورة. حيث قاموا بتفجير الجسور وقطع الطرق حتى يعرقلوا نشاط القوات الاستعمارية.
كانت مكاتب الاستعلامات الاستعمارية تتابع خطواته وتحسب عليه أنفاسه، معتمدة على مجموعة من الوشاة المنبثين في كل مكان تقوم برصد نشاطاته. حيث استطاعت في 28 ديسمبر 1954 من القاء القبض عليه، وتم ترحيله الى مركز خنقة سيدي ناجي، بهدف استنطاقه ومعرفة خبايا الثورة في شهريها الأول والثاني. وأرغمته القوات الاستعمارية على الخروج معها ليكشف لها المخابئ والمطامير، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، ولم يتوصلوا الى ما كانوا يصبون إليه رغم كل أنواع التعذيب والاذلال الذي تعرض اليه. وبعد عودتهم وفي الليل وبعون من الله استطاع الفرار من أيدي جلاديه حَاسِرَ الرأس عاري الجسد، حيث تبخر في غابات كيمل رغم محاولات القوات الاستعمارية القبض عليه مستعملة كل ما لديها من قوة ومن كلاب صيد وكلاب بشرية. واستطاع بعد عشرة أيام من الجوع والعطش الالتحاق بالقيادة في الأوراس حيث استقبله القائد مصطفى بن بولعيد.
في 20 أوت 1955 لما قررت قيادة الثورة رفع الحصار على الأوراس، تم ارسال أفواج من المجاهدين الى الشمال القسنطيني، كان من بين هذه الأفواج فوج جرعاوي امحمد الذي كونه عاجل عجول وعباس لغرور من حوالي 30 مجاهدا، حيث استقبل من قبل القائد زيغود يوسف، وكلف بالقيام بهجوم في ضواحي قالمة، وقد كللت العملية بالنجاح وانتصر فيها الثوار، بالإضافة الى مشاركته في معركة ـ ماونة ـ، والعمليات الفدائية ضد القوات الفرنسية والخونة في الشمال القسنطيني.
بعد عودته الى الأوراس في ربيع 1956 عين من قبل عباس لغرور في لجنة الرقابة على الحدود الجزائرية التونسية وتكوين الأفواج لجلب السلاح والذخيرة من تونس. وقد عانى الثوار الجزائريون كثيرا في فترة الصراع بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، حيث كانت قوات بورقيبة تلقي القبض على الجزائريين جزافا، فقام المجاهد جرعاوي بتحرير تقرير مفصل عن وضع الجزائريين وما يعانون منه ورفعه للقائد عباس لغرور، الذي أرسل رسائل احتجاج الى كل من الرئيس بورقيبة ووزير داخليته ووالي قفصة عن الانتهاكات التي يتعرض لها الجزائريون في تونس، وتم حل المشكل بالتفريق بين قوات صالح بن يوسف والثوار الجزائريين.
في نفس السنة كَلّف عباس لغرور لجنة الرقابة على الحدود الجزائرية التونسية بقيادة امحمد جرعاوي الاتصال بعبد الحي وطالب العربي الذين ألّفا قوة عسكرية في تونس قوامها 180 مجاهدا، وقد أفلح المجاهد جرعاوي بفضل علاقاته ان يدخل هاته القوات الى الجزائر. وفي فترة القائد محمد العموري ونائبه أحمد نواورة أصبح السلاح يدخل الجزائر بطريقة سَلِسَة من ليبيا وتونس، كان من ضمن لجنة توزيع الأسلحة على باقي الولايات امحمد جرعاوي وصالح قوجيل...
وفي 16 مارس 1959 نجا بفضل الله من الإعدام، عندما اتهم بضلوعه في المحاولة التي قام بها قائد الولاية الأولى محمد لعموري ضد الحكومة المؤقتة، حيث وقف الى جانبه ـ كما يؤكد بنفسه ـ كل من عيسى مسعودي وعباس التركي وأحمد فرنسيس وزير المالية. واستمر في عمله الثوري مع قائد الولاية الجديد الطاهر الزبيري الى غاية الاستقلال. انتقل الى جوار ربه في 26 جانفي 2000.